الاسقف

الأسقف أوربان غرانديه ادّعوا أنه متحالف مع الشياطين فأحرقوه حياً

الأسقف “أوربان غرانديه”…
ادّعوا أنه متحالف مع الشياطين فأحرقوه حياً

كان الأسقف الشاب “أوربان غرانديه” الذي ولد سنة “1590” يتمتع بحرية الفكر واستقلال الرأي، ولا يستطيع التقيد بنظام الطاعة بشكل عشوائي، فقد كان يتمسك بأصول الدين، وروحه الداعية إلى الفضيلة والمحبة دون طقوس ومظاهر، أو إتباع أوهام وخرافات تتنافى في رأيه مع المنطق السليم ولا تتلاءم مع جوهر الدين، في عصر كان مليء بالدجالين والمشعوذين الذين يتاجرون بالمبادئ السامية.

كان لـ “غرانديه” خصوم عديدون، في طليعتهم الكاهن “مينيون”، ومنافسون يحسدونه على ما يتمتع به من حجج قوية وحيوية عارمة وشباب ريان وما يحظى به لدى الناس من حب وإعجاب ولا سيما عند النساء المفتونات بجماله وبلاغته، وقد اتهم بإقامة علاقات غرامية مع العديد منهنّ، وكانوا ينتقدونه لمعارضته سياسة الدولة خاصة في ظل حكم الكاردينال “ريشيليو” الذي كان يحكم فرنسا حكماً دكتاتورياً في عهد “لويس الثالث عشر”، والذي أرهق البلاد بالحروب.

بدأ هؤلاء بمؤامرة ضد “غرانديه” فاتهموه بالتهاون في واجباته الدينية وإقامة علاقات غرامية مع النساء، فاعتقل في “بواتيميه” عام “1629”،  وحكم عليه بالسجن ثلاثة أشهر والامتناع عن الطعام إلا من الخبز والماء.

بعد مدة رفع “غرانديه” الحكم إلى مطرانية “بوردو”، وبعد التأكد من إدعاءات الدجالين والكاهن “مينيون” بحق “غرانديه”، صدر حكم القضاء عام “1631” بتبرئة “أوربان غرانديه” من التهم التي نسبت إليه، وإبطال الحكم الصادر بحقه، ولكنه نُصِحَ بألا يعود إلى كنيسته وأن يستعفي من منصبه، تجنباً للاصطدام مع خصومه الكثيرين، إلا أنه لم يعمل بهذه النصيحة وإنما عاد إلى موقعه يتحدى به أولئك الخصوم الأقوياء انتقاماً للشهور التي قضاها مضطهداً في السجن.

ما كاد “غرانديه” يستقر في بلدته وكنيسته، ويعاود سيرته في انتقاد زملائه والطعن في مسلكهم الذي يتعارض مع أقوالهم، والدعوة إلى نبذ الأوهام والخرافات، حتى بدأ هؤلاء من جديد بمحاربته وعلى رأسهم الكاهن “مينيون”.

كان في الكنيسة دير للراهبات هو دير “الأورسولين”، أخذت تظهر على الراهبات عوارض غريبة وعجيبة، منها “النوبات الهستيرية”، فقيل أن الشياطين قد اجتاحت الدير وسكنت في أجساد الراهبات المتعبدات لتفسدهنّ وتخرجهنّ عن سواء السبيل. وقد اتهموا القس “غرانديه” بالتحالف مع الشياطين ليتلبس جسد الراهبة، وبدأ الناس يخافون من “غرانديه” وينظرون إليه بحذر شديد. كانت “رئيسة الدير” وبالتحالف مع “مينيون” قد اتهما “غرانديه” بأنه قام بإلقاء  غصناً من الورد في حديقة الدير، وما من راهبة لمست وروده إلا وفعل السحر فعله فيها وحلّ الشيطان في جسدها…

تألفت على أثر ذلك هيئة من القضاة للنظر في هذه القضية، ومثلت الراهبات المسكونات أمامها، وكان “غرانديه” قد قابل التهمة بالهزء والسخرية. وقد شكا أمره إلى كبير أساقفة “بوردو”، فأرسل طبيبه الخاص إلى الكنيسة للتحقيق في هذه القضية، وما كاد الطبيب يصل حتى شفيت الراهبات وتوقفن عن الأعراض التي كانت تنتابهنّ، فأيقن الكثيرون بأنهن كاذبات وسقطت التهم عن “غرانديه”. وفي أحد الأيام وقع كتاب هجائي في يد الوزير “ريشيليو” وفيه هجوم شديد على الوزير وعلى المظالم التي ترتكب في عهده بأسلوب فكاهي ساخر، فأكد بعض الكهنة أن “غرانديه” هو الذي كتبه، وسرعان ما أمر الوزير معاونيه بتوقيف “غرانديه”، وما كاد أن يدخل السجن حتى اتفق “مينيون” مع الراهبات أن يعيدوا المؤامرة على “غرانديه” وعادت الشياطين للظهور في أجسادهنّ، وحاول بقية الكهنة إثبات وجود الشياطين في أجساد الراهبات بشتى الأساليب لكن الطبيبين “دونكان وكيليه” استطاعا فضح ذلك الافتراء وإظهار ما وراءه من تصنع وخداع، وجعلا من قضية الشياطين موضوع فكاهة وسخرية لدى الجمهور الذي حضر الفحص، مما أغضب رئيس الكهنة فأصدر قراراً منع فيه الطبيبين من التعرض للراهبات والكهنة وأراد أن يبطش بالطبيبين، فاستجار الأول بالماريشال “بروزه” الحاكم، وهرب الثاني إلى إيطاليا.

طلب رئيس الكهنة من “ريشيليو” أن يحاكم “غرانديه” بتهمة السحر والتحالف مع الشيطان، في “18” آب عام “1634” أصدرت المحكمة حكمها بأن يوثق “غرانديه” على وتد فوق محرقة تقام في الساحة كي يحرق جسده حياً وتحرق معه نزعاته السحرية، وأن ينثر رماده في الريح، وطُلبَ من “غرانديه” الاعتراف بذنوبه وطلب الغفران، ورغم شتى أنواع التعذيب أصر “غرانديه” على القول بأنه لم يمارس السحر يوماً، ولم يؤمن بوجوده أصلاً، ولم يرى للشيطان وجهاً أو يسمع له صوتاً. وبينما كانت ترتفع صرخات الجمهور استنكاراً مطالبة بالكف عن تعذيبه إلا أنهم أوثقوه إلى وتد بسلك من حديد، وارتفعت أصوات الكهنة المصطفين بأغان دينية تهدف إلى إخراج الشيطان من جسده، وكان “غرانديه” يردد بأنه بريء وأن الله يعلم بأنه بريء وأن في السماء إلهاً سيحاكمهم!!
كانت تلك كلماته الأخيرة عندما كانت النار التي تؤججها الريح قد أحاطت به من كل جانب، وما هي إلا دقائق، لم يبق من “أوربان غرانديه” سوى عظام متفحمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *